الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وَسَيُحِيطُ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مَا كَانُوا يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ قَبْلَ وُقُوعِهِ، فَلَا هُوَ يُصْرَفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يَنْجُونَ مِنْهُ، عَبَّرَ بِـ حَاقَ الْمَاضِي لِلْإِيذَانِ بِتَحْقِيقِ وُقُوعِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ وَقَعَ بِالْفِعْلِ، وَعَبَّرَ عَنِ الْفَاعِلِ بِ مَا الْمَوْصُولَةِ بِفِعْلِ الِاسْتِهْزَاءِ الْمُسْتَمِرِّ لِلْإِيذَانِ بِعِلَّتِهِ وَسَبَبِهِ، وَهَذَا الْمَوْضُوعُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ يُونُسَ مُفَصَّلًا فِي الْآيَاتِ (45- 55) وَبَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِهَا حِكْمَةَ إِبْهَامِ هَذَا الْعَذَابِ بِمَا يَحْتَمِلُ عَذَابَ الدُّنْيَا وَعَذَابَ الْآخِرَةِ مَعَ الشَّوَاهِدِ مِنَ السُّوَرِ.{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} هَذَا وَمَا بَعْدَهُ بَيَانٌ لِحَالِ الْإِنْسَانِ فِي اخْتِبَارِ اللهِ لَهُ فِي قَوْلِهِ: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (7) أَيْ لَئِنْ أَعْطَيْنَاهُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ النِّعْمَةِ رَحْمَةً مِنَّا مُبْتَدَأَةً أَذَقْنَاهُ لَذَّتَهَا، فَكَانَ مُغْتَبِطًا بِهَا، كَالصِّحَّةِ وَالْأَمْنِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ وَالْوَلَدِ الْبَارِّ.{ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} بِمَا يَحْدُثُ مِنَ الْأَسْبَابِ بِمُقْتَضَى سُنَّتِنَا فِي الْخَلْقِ مِنْ مَرَضٍ وَعُسْرٍ وَفِتَنٍ وَمَوْتٍ.{إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} أَيْ: إِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَشَدِيدُ الْيَأْسِ مِنَ الرَّحْمَةِ، قَطُوعٌ لِلرَّجَاءِ مِنْ عَوْدَةِ تِلْكَ النِّعْمَةِ، كَثِيرُ الْكُفْرَانِ لِغَيْرِهَا مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا يَزَالُ يَتَمَتَّعُ بِهَا، فَضْلًا عَمَّا سَلَفَ مِنْهَا، فَهُوَ يَجْمَعُ بَيْنَ الْيَأْسِ مِمَّا نُزِعَ مِنْهُ، وَالْكُفْرِ بِمَا بَقِيَ لَهُ لِحِرْمَانِهِ مِنْ فَضِيلَتَيِ الصَّبْرِ وَالشُّكْرِ.{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} النَّعْمَاءُ بِالْفَتْحِ اسْمٌ مِنْ أَنْعَمَ عَلَيْهِ إِنْعَامًا- كَالنِّعْمَةِ بِالْكَسْرِ وَالنُّعْمَى بِالضَّمِّ- وَهِيَ مَا يُقَابَلُ بِالضَّرَّاءِ مِنَ الضُّرِّ الَّذِي يُقَابَلُ بِهِ النَّفْعُ، وَلَمْ تَرِدِ النَّعْمَاءُ فِي التَّنْزِيلِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذِهِ الْإِذَاقَةُ أَخَصُّ مِمَّا قَبْلَهَا، وَهِيَ تَتَضَمَّنُ كَشْفَ الضَّرَّاءِ السَّابِقَةِ وَإِحْلَالَ مَا هُوَ ضِدُّهَا مَحَلَّهَا، كَالشِّفَاءِ مِنَ الْمَرَضِ وَزِيَادَةِ الْعَافِيَةِ وَالْقُوَّةِ السَّابِغَةِ، وَالْمَخْرَجِ مِنَ الْعُسْرِ وَالْفَقْرِ، إِلَى سَعَةِ الْغِنَى وَالْيُسْرِ، وَالنَّجَاةِ مِنَ الْخَوْفِ وَالذُّلِّ، إِلَى بُحْبُوحَةِ الْمَنَعَةِ وَالْعِزِّ. يَقُولُ تَعَالَى وَلَئِنْ مَنَحْنَا هَذَا الْإِنْسَانَ الْيَئُوسَ الْكَفُورَ: نَعْمَاءَ، أَذَقْنَاهُ لَذَّتَهَا وَنِعْمَتَهَا، بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ بِاقْتِرَافِهِ لِأَسْبَابِهَا، إِثْرَ كَشْفِهَا وَإِزَالَتِهَا {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} أَيْ ذَهَبَ مَا كَانَ يَسُوءُنِي مِنَ الْمَصَائِبِ وَالضَّرَّاءِ فَلَنْ تَعُودَ، فَمَا هِيَ إِلَّا سَحَابَةُ صَيْفٍ تَقَشَّعَتْ فَعَلَيَّ أَنْ أَنْسَاهَا بِالتَّمَتُّعِ بِاللَّذَّاتِ {إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} أَيْ إِنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَشَدِيدُ الْفَرَحِ وَالْمَرَحِ الَّذِي يُهَيِّجُهُ الْبَطَرُ بِالنِّعْمَةِ، وَمُبَالِغٌ بِالْفَخْرِ وَالتَّعَالِي عَلَى النَّاسِ وَالِاحْتِقَارِ لِمَنْ دُونَهُ فِيهَا، فَهُوَ لَا يُقَابِلُهَا بِشُكْرِ اللهِ عَلَيْهَا.رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ، وَقِيلَ فِي عَبْدِ اللهِ بْنِ أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا مُوَافِقَةٌ لِحَالِهِمَا، وَهِيَ إِنَّمَا نَزَلَتْ فِي ضِمْنِ السُّورَةِ لِبَيَانِ حَالَةِ النَّاسِ الْعَامَّةِ، وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى مِنْهَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مِنْ جِنْسِ الْإِنْسَانَ فِيمَا ذَكَرَ مِنْ حَالَيْهِ فِي الْآيَتَيْنِ قَبْلَهُ: الْكُفْرِ بِأَنْعُمِ اللهِ وَالْيَأْسِ مِنْ رَحْمَتِهِ عِنْدَ زَوَالِ شَيْءٍ مِنْهَا، وَفَرَحِ الْبَطَرِ وَعَظَمَةِ الْفَخْرِ بِهَا عِنْدَ إِقْبَالِهَا، يَقُولُ: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الضَّرَّاءِ إِيمَانًا بِاللهِ وَاحْتِسَابًا لِلْأَجْرِ عِنْدَهُ {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} عِنْدَ كَشْفِهَا وَتَبْدِيلِ النَّعْمَاءِ بِهَا، مِنْ شُكْرِهِ تَعَالَى بِاسْتِعْمَالِ النِّعْمَةِ فِيمَا يُرْضِيهِ تَعَالَى مِنْ عَمَلِ الْبِرِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ} وَاسِعَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ تَمْحُو مِنْ أَنْفُسِهِمْ مَا عَلَقَ بِهَا مِنْ ذَنْبٍ أَوْ تَقْصِيرٍ {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا وُفِّقُوا لَهُ مِنْ بِرٍّ وَتَشْمِيرٍ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ وَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا بَارًّا لَا يَسْلَمُ فِي الضَّرَّاءِ وَالْمَصَائِبِ مِنْ ضِيقِ صَدْرٍ قَدْ يُنَافِي كَمَالَ الرِّضَى أَوْ يُلَابِسُ بَعْضَ الْوِزْرِ، وَفِي حَالِ النَّعْمَاءِ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الزَّهْوِ وَالتَّقْصِيرِ فِي الشُّكْرِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُغْفَرُ لَهُ بِصَبْرِهِ وَشُكْرِهِ وَإِنَابَتِهِ إِلَى رَبِّهِ.وَيُنَاسِبُ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ يُونُسَ: {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرّ دَعَانَا} (10: 12) إِلَخْ وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ} (10: 12) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ (23) فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُنَّ مَعَ تَفْسِيرِ: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} 10: 58.تَعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الْمُكَرَّرَةَ بِالْأَسَالِيبِ الْمُخْتَلِفَةِ الْبَلِيغَةِ مَا أُنْزِلَتْ إِلَّا لِهِدَايَتِكَ لِمَا تُزَكِّي بِهِ نَفْسَكَ وَتُثَقِّفُ طِبَاعَهَا وَعَادَاتِهَا الضَّارَّةَ، وَالْجَامِعُ لِلْمُرَادِ هُنَا بِأَخْصَرِ عِبَارَةٍ وَأَبْلَغِهَا، سُورَةُ: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} (103: 1- 3). اهـ.
فإن نلتها استوفيت كل منائيا: {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} هو وقت وفاتكم: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ} بالسعي والاجتهاد وبذل النفس: {فَضْلِهِ} في الدرجات والقرب إليه سبحانه؛ ويقال: {يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ} في الاستعداد: {فَضْلِهِ} في الكمال، وسئل أبو عثمان عن معنى ذلك فقال: يحقق آمال من أحسن به ظنه: {وَإِن تَوَلَّوْاْ} أي تعرضوا عن امتثال الأمر والنهي: {فَإِنّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3] وهو يوم الرجوع إلى الله تعالى الذي يظهر فيه عجز ما سواه تعالى ويتبين قبح مخالفة ما أمر به وفظاعة ارتكاب ما نهى عنه: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ} يعطفون صدورهم على ما فيها من الصفات المذمومة: {لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} تعالى وذلك لمزيد جهلهم بما يجوز عليه جل شأنه وما لا يجوز.{أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [هود: 5] من الأقوال والأفعالوسائر الأحوال، وقيل: {مَا يُسِرُّونَ} من الخطرات: {وَمَا يُعْلِنُونَ} من النظرات، وقيل: {مَا يُسِرُّونَ} بقلوبهم: {وَمَا يُعْلِنُونَ} بأفواههم، وقيل: مَا يُسِرُّونَ بالليل وَمَا يُعْلِنُونَ بالنهار، والتعميم أولى: {وَمِنَ الناس مَن جَعَلَ} ضمير منه للرسول صلى الله عليه وسلم.وقد علمت أنه يبعده ظهور أن ضمير: {يَعْلَمْ} له تعالى لكن ذكر في أسرار القرآن أنه تعالى كسا أنوار جلاله أفئدة الصديقين فيرون بأبصار قلوبهم ما يجري في صدور الخلائق من المضمرات والخطرات كما يرون الظواهر بالعيون الظاهرة، وقد جاء «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى» وعلى هذا فيمكن أن يكون ضمير: {يَعْلَمْ} للرسول عليه الصلاة والسلام، وأيًا مّا كان فالآية نازلة في غير المؤمنين حسبما يقتضيه الظاهر، وقد تقدم لك أن الأمر على ما روي عن الحبر رضي الله تعالى عنه مشكل.وقال بعض أرباب الذوق: إن الآية عليه إشارة إلى أن أولئك الأناس لم يصلوا إلى مقام الجمع ولم يتحققوا بأعلى مراتب التوحيد وفيه خفاء أيضًا فتفطن: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} أي ما تتغذى به شبحًا وروحًا، ويقال: لكل رزق عليه تعالى بقدر حوصلته فرزق الظاهر للأشباح، ورزق المشاهدة للأرواح، ورزق الوصلة للأسرار؛ ورزق الرهبة للنفوس، ورزق الرغبة للعقول، ورزق القربة للقلوب، وهذا بالنظر إلى الإنسان، وأما بالنظر إلى سائر الحيوانات فلها أيضًا رزق محسوس.ورزق معقول يعلمه الله تعالى: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} [هود: 6] فمستقر الجميع أصلاب العدم: {وَمُسْتَوْدَعَهَا} أرحام الحدوث: {وَهُوَ الذى خَلَقَ السموات والأرض} وما في كل: {فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} أي كان حيًا قيومًا كما قال ابن الكمال.وقيل: الماء إشارة إلى المادة الهيولانية، والمعنى: {وَكَانَ عَرْشُهُ} قبل خلق السموات والأرض بالذات لا بالزمان مستعليًا على المادة فوقها بالرتبة، وقيل: غير ذلك، وإن شئت التطبيق على ما في تفاصيل وجودك فالمعنى على ما قيل: خلق سموات قوى الروحانية، وأرض الجسد في الأشهر الستة التي هي أقل مدة الحمل، وكان عرشه الذي هو قلب المؤمن على ماء مادة الجسد مستوليًا عليه متعلقًا به تعلق التصوير والتدبير: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] قيل: جعل غاية الخلق ظهور الأعمال أي خلقنا ذلك لنعلم العلم التفصيلي التابع للوجود الذي يترتب عليه الجزاء: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً} [هود: 9] إلخ تضمن الإشارة إلى أنه ينبغي للعبد أن يكون في السراء والضراء واثقًا بربه تعالى متوكلًا عليه غير محتجب عنه برؤية الأسباب لئلا يحصل له اليأس والكفران والبطر والفخر بذلك وجودًا وعدمًا، فإن آتاه رحمة شكره أولًا: برؤية ذلك منه جل شأنه بقلبه.وثانيًا: باستعمال جوارحه في مراضيه وطاعاته والقيام بحقوقه تعالى فيها، وثالثًا: بإطلاق لسانه بالحمد والثناء على الله تعالى وبذلك يتحقق الشكر المشار إليه بقوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ الشكور} [سبأ: 13] وإلى ذلك أشار من قال: وبالشكر تزداد النعم كما قال تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، وعن علي كرم الله تعالى وجهه إذا وصلت إليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر، ثم إن نزعها منه فليصبر ولايتهم الله تعالى بشيء فإنه تعالى أبر بالعبد وأرحم وأخبر بمصلحته وأعلم، ثم إذا أعادها عليه لا ينبغي أن يبطر ويغتر ويفتخر بها على الناس فإن الاغترار والافتخار بما لا يملكه من الجهل بمكان، وقد أفاد سبحانه أن من سجايا الإنسان في الشدة بعد الرحمة اليأس والكفران وبالنعماء بعد الضراء الفرح والفخر: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} مع الله تعالى في حالتي النعماء والضراء والشدة والرخاء، فالفقر والغنى مثلًا عندهم مطيتان لا يبالون أيهما امتطوا: {وَعَمِلُواْ الصالحات} ما فيه صلاحهم في كل أحوالهم: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} من ذنوب ظهور النفس باليأس والكفران والفرح والفخر: {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 11] من ثواب تجليات الأفعال والصفات وجنانهما، والله تعالى ولي التوفيق. اهـ.
وليس للأحوال الدنيوية خَطَرٌ في التحقيق، ولا يُعدُّ زوالها وتكدُرها من جملة المحن عند أرباب التحصيل، لكنَّ المحنة الكبرى والرزيةَ العظمى ذبولُ غصنِ الوصال؛ وتكدرُ مشرب القرب، وأفولُ شوارق الأُنْسِ، ورَمَدُ بصائر أرباب الشهود... فعند ذلك تقوم قيامتُهم، وهناك تُسْكَبُ العَبَراتُ. ويقال إذا نَعَقَ في ساحاتِ هؤلاء غرابُ البيْن ارتفع إلى السماء نُوَاحُ أسرارهم بالويل، ومن جملة ما يبثون نحيبهم ما قلتُ: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10)}إذا كشفنا الضُرَّ عنهم رحمةً مِنَّا عادوا إلى تهتكهم بدلًا من أن يتقربوا إلينا، وأساءوا بخلع عذارهم بدل أن يقوموا بشكرنا، وكلما أتَحْنَا لهم من إمهالنا أَمِنوا بمكرنا ولم يخافوا أنْ نأخذَهم فجأة بقهرنا.{إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)}الإنسان في الآية السابقة اسم جنس.وإلا للاستثناء منه، وقيل بمعنى {لكن}، يريد إذا أذقناهم نعمة بعد الشدة بطروا، إلا المؤمنين فإنهم بخلاف ذلك، أي لكنَّ الذين آمنوا بخلاف ذلك، فإنهم لصبرهم على ما به أُمِروا، وعما عنه زُجِروا، ولمعانقتهم للطاعات ومفارقتهم الزَّلات... فلهم مغفرة وأجر، مغفرة لعصيانهم، وأجرٌ على إحسانهم. والفريقان لا يستويان، قال قائلهم: . اهـ.
|